إن الأسلوب العلمي لتأكيد أو نفي الانفراد الكامل للتنشئة بعملية التجنيس هو أن ننشئ مجموعتين من الأطفال، مجموعة من الذكور ومجموعة من الإناث، بأسلوب متماثل، وبعيدًا عن أي فوارق تربوية، فإذا شب الأطفال وقد تبنى كل من ذكورهم وإناثهم سلوكًا متشابهًا، أثبت ذلك دور التنشئة. أما إذا شبوا وقد اكتسبوا سلوكًا مختلفًا كذکور وإناث، نفی ذلك دور التنشئة أو أثبت معه دورًا للفطرة والبيولوجيا.
لكن، من أين لنا مثل هذه الظروف التربوية المتماثلة؟ وكيف نوفرها على سطح هذا الكوكب؟
الفطرة وتوجيه سلوك الإنسان
لقد أتاحت تجمعات الكيبوتس بالكيان الصهيوني للباحثين هذه الفرصة (البيئة التربوية المتماثلة)، وذلك من خلال المزارع الجماعية. ويتم في هذه المزارع تجميع المهاجرين الجدد لتدريبهم على الحياة في مجتمعهم الجديد.
وتعتمد الحياة في هذه التجمعات على مبدأ المساواة بين الأعضاء، كما يعتمد الطفل على المؤسسة التي تدير الكيبوتس -لا على أبيه أو أمه- في معيشته وملبسه وتعليمه ونفقاته وجميع احتياجاته.
ويقوم (المهندسون الاجتماعيون) في هذه التجمعات بجهود كبيرة؛ لمنع العوامل الاجتماعية والتربوية من ممارسة أي دور في توجيه تنشئة الطفل كذكر أو كأنثی، حتى يعطونهم فرصة اختيار مجال دراساتهم العليا ومستقبلهم العملي تبعًا لميولهم الشخصية البحتة، وحتى يتحقق ذلك فإن نظام الكيبوتس يلتزم في التربية بالأمور التالية:
1- يرتدى جميع الأطفال -ذكورًا وإناثًا- نفس الثياب المدرسية.
2- يلتزم جميع الأطفال بنفس قصة الشعر.
3- يختار الأطفال ما يشاءون من لُعب، فلا تُشجع البنات على اللعب بالعرائس، ولا الذكور على اللعب بالسيارات والمسدسات والكرات.
4- لا تحتوي المناهج الدراسية على ما يحبذ التَجَنُّس.
5- عدم توجيه الأطفال بتعليمات تُظهر التمايز الجنوسي بينهم، من قبيل: (البنات لا ينبغي أن يتسلقن الأشجار. البنات لا ينبغي أن يتشاجرن. الأولاد لا ينبغي أن يبكوا کالبنات. الأولاد لا ينبغي أن يلعبوا بالعرائس). وفي الوقت نفسه تكون الأعمال المنزلية -كالطبخ وغسل الملابس- مسئولية الإدارة داخل الكيبوتس، فلا يلمس الطفل أي تمييز بين الذكور والإناث.
لقد توقع المسئولون عن هذه التجمعات، أنه بمرور عدد من الأجيال التي يتم تنشئتها بهذا الأسلوب أن الفروق الجنوسية ستتلاشى وتصبح ذکری!. لكن شيئًا من ذلك لم يحدث بالرغم من مرور 4 أجيال، فما زال الأطفال يكبرون وهم حريصون على ممارسة دورهم الفطری کذكور أو إناث. وعندما يصل الفتيان والفتيات إلى المدرسة الثانوية يختار معظم الأولاد دراسة الفيزياء والرياضيات والهندسة، ويشقون طريقهم ليصبحوا علميين ومهندسين، بينما تختار معظم البنات دراسة علم الاجتماع واللغات، ويشققن طريقهن ليصبحن مدرسات. كذلك تندفع النساء بشدة لممارسة دورهن كأمهات بالرغم من غياب من يتعلمن منهن كيفية ممارسة الأمومة.
وحتى الآن تعزف غالبية النساء هناك عن ممارسة العمل السياسي، وترشيح أنفسهن لدخول البرلمانات، بالرغم من مساواتهن بالذكور في الحقوق السياسية. وتُقبل المرأة بدلاً من ذلك على ممارسة العمل الاجتماعي والتعليمي والثقافي.
وكلما ارتفعنا في الهرم السلطوي في الكيبوتسات زادت الفجوة بين الذكور والإناث، فإذا كان 6٪ من الرجال يصلون إلى المراكز القيادية في العمل وفي الإدارة، فإن النسبة تصبح 6/1000 (أي 6.%) بين الإناث. ومن ثم فقد تغلبت الدوافع الفطرية البيولوجية على كل المفاهيم الأيديولوجية والاجتماعية والسياسية.
لقد فشلت كل محاولات السياسيين في استخدام (الهندسة الاجتماعية) داخل الكيبوتسات من أجل خلق يوتوبيا بالمفاهيم الذكورية (مجتمع يرى أن السعادة تتحقق إذا تبنى الجميع -ذكورًا وإناثًا- قيم التحدي والتفوق المادي).
كما قدموا لنا البرهان على أن عقول الذكور والإناث مختلفة بالفطرة وليس بالتنشئة، وأن الأولاد والرجال يعيشون غالبًا في عالم الأشياء من خلال عقول تنظيمية. بينما تعيش البنات والنساء في عالم الإنسان والعلاقات من خلال عقول تعاطفية.
يدرك كل من يهتم بتربية الحيوانات -كالقطط والكلاب- أن هناك فروقًا سلوكية بين ذكورها وإناثها، فهل يرجع ذلك إلى الاختلاف في التنشئة؟! وإذا كان للبيولوجيا دور في هذه الفروق في الحيوانات فلِمَ ينكر القائلون بنظرية التنشئة أن يكون للبيولوجيا دور في توجيه سلوك الإنسان؟
الفروق الفطرية والاستجابة للتربية
ومن أجل تحديد دور كل من التنشئة والبيولوجيا في توجيه أسلوب تفكير وسلوك كل من الذكور والإناث قام الدكتور مایکل میلبورن -أستاذ علم النفس بجامعة ماساشوسيتس بالولايات المتحدة- بدراسة شديدة الأهمية والدلالة. (1)
أجريت هذه الدراسة على مجموعتين من الشباب، تتضمن كل مجموعة أفرادًا من الجنسين. وتشتمل المجموعة الأولى على الشباب الذين تمت تربيتهم بأسلوب معتدل، أي بدون زجر شديد أو عقاب بدني مؤذ من الوالدين. وعندما شب هؤلاء الأفراد -رجالاً ونساءً- كانوا من المعتدلين سياسيًا، كما كانوا معتدلين إداريًا عندما تولوا مناصبًا قيادية.
أما المجموعة الأخرى، فقد ضمت رجالاً ونساءً من الذين تَعرّضوا في صغرهم لعقوبات بدنية شديدة، وذلك بالضرب بالقبضات وبالأحزمة، وأحيانًا بالسياط عند أقل خطأ، وقد أظهر هؤلاء تباينًا جنوسيًا في أفكارهم وسلوكهم عندما كبروا. فالرجال كانوا من المؤمنين بالتدخل العسكري عند الضرورة السياسية، وكذلك بفرض العقوبات الشديدة على الدول والأفراد، وربما التعذيب البدني إذا اقتضى الأمر. أما النساء فكن من أشد الدعاة إلى الحرية وحقوق الإنسان.
تؤكد هذه الدراسة أن التربية تلعب دورًا كبيرًا في تشكيل مبادئ وأفكار وسلوك الإنسان (قارن بين المجموعتين)، ولكنها تثبت في الوقت نفسه تأثير الفروق الفطرية على استجابة الإنسان للتربية (قارن بين استجابة ذكور وإناث المجموعة الثانية). فإذا كان الذكور قد تبنوا بشدة دور الظالم الذي عانوا من بطشه في طفولتهم، فإن النساء -لطبيعتهن التعاطفية- قد وضعن أنفسهن مكان الطرف الضعيف، ورفضن ما يتعرض له من تعذيب.
الحمل والرضاعة وتشكل الهوية
كذلك تؤثر الحالة النفسية للأم في تشكيل مخ أبنائها -خصوصًا البنات- خلال العامين الأولين من الولادة. فالأمهات المتوترات يُكسبن بناتهن مخًا متوترًا يؤثر في نظرتهن للعالم من حولهن، ويمكن لهذه التأثيرات أن تنتقل عبر عدة أجيال من الأحفاد.
وينتقل هذا الإرث النفسي إلى الأطفال ابتداءً من المرحلة الجنينية، وذلك عن طريق الكميات الكبيرة من هورمونات الكرب والتوتر (الكورتيزون والأدرينالين)، التي تفرز في دم السيدة الحامل المتعرضة للتوتر.
ويقول مارك بردلف -أستاذ الغدد الصماء بجامعة كاليفورنيا- في قضية التنشئة أم الفطرة: “لقد أصبحنا على يقين من أن مخ الأطفال ليس صفحة بيضاء، نخط فيها البرامج التي نريدها؛ ليتصرف الطفل كذكر أو كأنثى. إن الأطفال يولدون وقد تَجنَّست عقولهم على هيئة معينة (مخ/عقل ذكوري أو مخ/عقل أنثوى). أي أن الطفل يولد بمخ ذى هوية جنسية معينة، مخ تم تشكيله داخل الرحم، بعيدًا عن تلاعب المهندسين الاجتماعيين الذين ينتظرونهم خارج الرحم. أما دور التنشئة فهو دفع العقول في الاتجاه الجنسي الذي تم تحديده مسبقًا”.
_____________________
* نقلاً عن كتاب “المخ.. ذكر أم أنثى”، للدكتور عمرو شريف والدكتور نبيل كامل، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، 2012، بتصرف يسير.
(1) نشرت الدراسة في مجلة الأمراض النفسية Psychiatry of Journal، في شتاء ۱۹۹۹، بعنوان The Politics of Denial