لم يكن أبو ليلى المهلهل -المعروف بالزير سالم- حريصًا في حرب البسوس الطويلة على قتل جساس بأخيه كليب، فما كان هذا الحد ليرضيه، فثورته لمقتل أخيه تحولت إلى شره ونهم في حب الصراع، بل كان يتمنى أن يظل جساس حيًا ليظل الثأر قائمًا ويفني جميع البكريين.
أزمة الثائر الفوضوي أنه يستمرئ الثورة على الأوضاع، حين يغدو جموحه الثوري غاية لا وسيلة، فلا حد لتمرده، ولا سقف لتطلعاته، هو فقط يثور ويثور من أجل أن يظل ثائرًا.
ذلك شأن النسوية العربية التي تحولت قضيتها من المطالبة بحقوق المرأة المهضومة في المجتمعات المتخلفة، إلى الثورة المطلقة الدائمة ضد المجتمع الذي يروق للنسويات دائمًا تسميته بالمجتمع الذكوري.
تحرير المرأة العربية بالفعل تم منذ بزوغ شمس الإسلام، وأُنقذت المرأة من براثن الجاهلية الجهلاء التي جعلتها هملاً ومتاعًا لا قيمة لها، فغدت ملكة متوّجة، ترث، وتتعلم وتُعلِّم، وتعمل، وتستشار، وتُكفى هم الحياة، وتمتلك ما تشاء، وتعيش في حماية التشريعات التي تصونها وتحفظها.
لا ريب في أن المرأة عاشت عصورًا لم تعامل فيها وفق النظام الإسلامي الذي صانها، فظُلمت وهُضمت حقوقها المشروعة، ولا ريب كذلك في أن لها حق المطالبة بكامل حقوقها المسلوبة، لكن مع بزوغ الحركة النسوية العربية أسوة بالغربيات، تحولت المطالبة بالحقوق -مع الوقت- إلى حالة مستدامة من الثورة على المجتمع، ولم نعد ندري ماذا تريد المرأة العربية أن تنال، وإلى أين ستأخذ مطالبها مجتمعاتنا العربية؟
دفع المرأة للصراع مع الرجل
تحولت النسوية من فكر ينادي بالحقوق إلى فكرة صدامية صراعية مع المجتمع، وضد كل ما هو ذكوري، وينظر دعاة هذا التيار إلى المرأة باعتبارها فردًا مستقلاً بذاته في المجتمع، وليس باعتبارها العمود الفقري لمؤسسة الأسرة كأم وزوجة. مشكلة النسوية أنها تتخطى المرجعية المشتركة للذكر والأنثى، ومن ثم تجعل من الحياة الزوجية والأسرة عبئًا على المرأة، وفي خضم هذا الصراع مع المجتمع تتمحور المرأة حول نفسها ومتطلباتها، وبدلاً من أن تقدم نفسها باعتبار حقيقة (المرأة مع الرجل) قدمت نفسها بمنطق (المرأة مقابل الرجل).
يقول العالم الموسوعي الراحل عبد الوهاب المسيري عن النسوية: “تصدر عن مفهوم صراعي للعالم؛ حيث تتمركز الأنثى على ذاتها، ويتمركز الذكر هو الآخر على ذاته، ويصبح تاريخ الحضارة البشرية هو تاريخ الصراع بين الرجل والمرأة، وهيمنة الذكر على الأنثى، ومحاولتها التحرر من هذه الهيمنة”.
تهرول النسوية العربية باتجاه إعادة صياغة التاريخ والرموز والطبيعة البشرية، بل والتراث -ولا نذهب بعيدًا عن الحقيقة إن قلنا إعادة تفسير النصوص القرآنية والنبوية- بما ينسجم مع الرغبة الجامحة، أو الثورة الدائمة على أي فروق بين الذكر والأنثى، ولو كانت مما تقتضيه طبيعة الاختلاف الفطري والفسيولوجي والنفسي والجسدي بينهما.
مزلق المساواة المطلقة
ومن أبشع المزالق التي وقعت فيها النسوية العربية، تجاهل الفرق بين المساواة والعدل، فالعدل لا يقتضي المساواة، والمساواة ليست دائمًا عدلا، وإنك لو قسمت جرعة ماء بين رجلين أحدهما لديه رغبة عادية في الشرب، وآخر قد أشرف على الهلاك عطشًا عملاً بمبدأ المساواة فلن يصفك أحد من العالمين بالعدل. أما أن تنادي المرأة بأن تكون على قدم المساواة مع الرجل في كل شيء، فهذا من السخف، فلكل منهما طبيعته وسماته، وحول هذا يقول الطاهر بن عاشور: “وقد ظهر هنا أنه لا يستقيم معنى المماثلة في سائر الأحوال والحقوق: أجناسًا أو أنواعًا أو أشخاصًا؛ لأن مقتضى الخلقة، ومقتضى المقصد من المرأة والرجل، ومقتضى الشريعة، التخالف بين كثير من أحوال الرجال والنساء في نظام العمران والمعاشرة”.
لذلك أقول بملء الفم، إن الدعوة إلى المساواة بين المرأة والرجل هي من الظلم الفاحش للمرأة. وإن كانت المماثلة مطلبًا أساسًا للنسوية، فلماذا لا تنادي النسوية العربية بالتجنيد الإجباري للمرأة؟ لماذا لا تتجاوز طبيعتها الأنثوية الرقيقة الضعيفة وتعمل إذا احتاجت للعمل في أعمال البناء والتشييد وأعمال الصرف وجميع الأعمال الشاقة العسيرة؟ لماذا لا تطالب بأن يجلس الرجل في البيت وتقوم هي بأعباء الحياة وتوفير متطلبات العيش الكريم من كل ما يلزم من أمور النفقة؟ أليس من الإنصاف أن تنادي بالمساواة في المكتسبات والأعباء معًا؟
النسوية العربية تناقش قضايا المرأة بمعزل عن المجتمع، فمثلاً قضية التحرش تتعامل معها كأنها ظاهرة مقبولة في المجتمع على الصعيد الرسمي والجماهيري، تتعامل معها وكأن المجتمع بمنظوماته الدينية والقانونية والأخلاقية لا يلفظها ولا يعاقب عليها. تتعامل النسوية العربية مع مظاهر الظلم والتعسف في الدولة باعتبار النساء شريحة مستهدفة، لا تنظر إلى السياق العام ككل، فنعم المرأة العاملة مظلومة في بعض الدول العربية في الأجور، لكنه ظلم عام يشترك فيه الرجال والنساء، وتنظر إلى تكميم الأفواه ولجم المعارضة في بعض الدول الخاضعة للأنظمة الاستبدادية باعتبارها موجهة للنساء خاصة، دون النظر إلى حال الجماهير الواقعة تحت هذا القهر وقمع حرية الكلمة؛ لذلك لا مناص من الاعتراف بأن النسوية العربية اتجاه يفصل المرأة عن مجتمعها، ويضيع أوقات وجهود المرأة في صراع مع طواحين الهواء بدلاً من أن توجه هذه الجهود والاهتمام إلى النهوض بالمجتمع، وبالقيام بدورها المنوط بها بالتعاون مع الرجل.
النسوية العربية ظلمت المرأة حين أثارت قضايا تجعلها في مرمى الاتهام بالسخف وضعف العقل، فما معنى أن تتحدث إحدى رائدات العمل النسوي عن تعدد الأزواج للمرأة، أسوة بتعدد الزوجات للرجل، مع ما تحمله الفكرة من مصادمة صريحة ليس للدين فقط، وإنما للفطرة والجبلّة، ومصادمة صريحة للخصائص الفسيولوجية لكل من الجنسين.
وما معنى أن تطالب النسوية بالمساواة بين الجنسين في الميراث، لتكشف عن جهلها بأن منظومة الميراث التي وضعها الإسلام جعلت أكثر من ثلاثين حالة تأخذ فيها المرأة مثل الرجل أو أكثر منه، مقابل أربع حالات ترث فيها المرأة نصف الرجل، إضافة إلى أنها مهما ورثت وامتلكت من ثروات فإن لها على زوجها حق النفقة، بخلاف الرجل الذي ربما يعول زوجته وأبناءها وأبويه وأخواته؛ مما يلزم معه أن يكون أوفر حظًا ونصيبًا من المال والثروة.
ربما تندهش النساء أن تكون هذه نظرة امرأة إلى النسوية، لكن هذا هو الحق الذي أؤمن به، وإنما صيغت أفكاري على هذا النحو بتضافر النظر في عظمة التشريع الإسلامي من ناحية، ومن خلال تراثنا الثقافي النقي من جهة ثانية، ومن خلال التأمل في الفطرة البشرية والفروق بين الرجل والمرأة من جهة ثالثة، ومن خلال استقراء الواقع الاجتماعي الرديء الذي أوجدته أوهام النسوية، وذلك الشرخ الهائل الذي صدّع جدران مؤسسة الأسرة جراء هذا التيار المتأثر بطوفان التغريب من جهة رابعة. أتمنى أن تفيق المرأة العربية الواقعة في براثن النسوية وتندمج في مجتمعها، تطالب بحقوقها المشروعة لكن في ظل هذا الاندماج، مع مراعاة الثوابت لا التصادم معها، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
* المصدر: موقع القدس العربي، 1/5/2022.