“كوني امرأة حرة، احصلي على وظيفة، سافري، إن لم تحققي أحلامك فلن يحققها لك أحد”.. عبر كلمات كهذه أطّرت النسوية نموذج الحياة الذي ستسير عليه النساء وتقيِّدن به حياتهن، كلمات صارت هدفًا أسمى للأجيال الحالية من الفتيات ولطفلات اليوم، اللواتي لا يعرفن نموذجًا آخر للحياة سوى هذا.
حاولت النسوية عبر ذاك الخطاب الذي وُجه عالميًا عبر وسائل الإعلام -بوسائطها المتعددة- تكريسه وجعله النموذج الأوحد الذي يجب على النساء أن يتبَعنه، خطاب بات فردانيًا ويصعب فصله عن شعارات التنمية البشرية الساذجة، كتحقيق الذات والإنجازات الشخصية وغيرها، وتفضيلها على الأسرة والأبناء، وجعلها هدف الحياة الأسمى. وكأن تأسيس الأسرة وإنجاب الأبناء ليسا مسؤولية مختارة بحد ذاتها، حتى صارت النظرة المجتمعية لمن تتخلى عن هذا النموذج لصالح النموذج الذي يناسب حياتها وحياة أسرتها، وتفضل حياتها الاجتماعية على المهنية والعلمية، نظرة ازدراء وتحقير؛ بحجة أنها امرأة فارغة بلهاء، سلمت قياد نفسها للرجل، ورضيت بالبقاء في المنزل، وهدمت طموحاتها.
بناء النموذج الأوحد
التركيز على الجانب الاقتصادي للمرأة، ونقد اعتمادها على الرجل الذي يجلب الدخل وبالتالي يتحكم بها، والمطالبات بمساواة المرأة في فرص العمل والأجور، وربط تحقيق الذات بالعمل المأجور خارج المنزل، وعدم تقدير أي عمل غير مأجور ماديًا كرعاية الأبناء، والتأكيد على فكرة المساواة، وأن المرأة باستطاعتها العمل في أي مجال كما الرجل، كل ذلك كان له تأثير كبير في دفع النساء للعمل خارج المنزل، وكأن هذا الخروج هو المحرر لهن من استعباد الرجل في منظومة الأسرة.
وبالطبع فإن دخول سوق العمل يستلزم الكثير من الأمور، أولها المؤهلات التعليمية الموحدة بين الذكر والأنثى، وتوجيه النساء لاختيار تخصصات بعينها تتطلب فيما بعد عملاً بشروط معينة لا تسمح لها بأخذ حياتها الأسرية والاجتماعية بعين الاعتبار، وثانيها الاستمرارية وعدم الانقطاع، فانقطاع المرأة عن سوق العمل للحمل والولادة والاعتناء بأطفالها حديثي الولادة سيجعلها تخسر مكانًا قد لا يتاح لها في السوق لاحقًا، بالإضافة لخسرانها سنوات من الخبرة ومن مواكبة سوق العمل ومعرفة التغيرات التي تحصل في عالمنا السريع.
وهكذا صارت فرص الحياة محصورة في الدراسة الجامعية، ثم دخول سوق العمل في أي وظيفة كانت، حتى بات هذا الأمر يلعب دورًا في رفضها أو قبولها لتكوين أسرة أولاً، وفي إنجاب الأطفال ثانيًا، بل وعلت أصوات تدعو لرفض الإنجاب مقابل الاكتفاء بنجاح في سوق العمل، وفي جلب الدخل والسفر حول العالم، وما يسمى بــ”تحقيق الأحلام الشخصية”.
عدم مراعاة الاختلافات
كان أبرز سيئات تطبيع هذا النموذج حول العالم هو عدم مراعاته للاختلافات الفردية بين النساء، كما هو حال أي نموذج أوحد يحاول أن يفرض على البشرية فرضًا، وكون الاختلاف عمود الحياة، فما يناسب امرأة لا يناسب أخرى في اختيار الأفضل لها ولعائلتها في العمل خارج المنزل أو داخله، في تفضيل الحياة الأسرية وجعلها أولوية أو اختيار المسار المهني في المقابل.
وهذا النموذج المادي من الحياة جعل الكثير من ربات البيوت محبطات يحسبن أنهن ضيعن حياتهن ومستقبلهن بالبقاء في المنزل والاعتناء بأطفالهن، ولم يحققن ذواتهن. وهنا، على هؤلاء الأمهات طرح هذا السؤال على أنفسهن: هل صار تحقيق الذات مساويًا للعمل خارج المنزل وجلب المال؟
ولسنا بحاجة لذكر أن هذه الاتهامات الموجهة للمرأة غير العاملة في الخارج تتعامل مع سوق العمل على أنه المكان الذي يراعي النساء وقدراتهن النفسية والجسدية، ونحن نعلم حق العلم أنه مكان يطحن الرجال قبل النساء برأسماليته وأهدافه الربحية والإنتاجية غير الإنسانية، “ناهيك عن أن الواقع المتخفي خلف النموذج الجديد هو واقع معدلات الأجور المُحبِطة، وانخفاض الأمن الوظيفي، وانخفاض المستويات المعيشية، والارتفاع الحاد في عدد ساعات العمل مقابل وقت الاهتمام بالشؤون المنزلية، وازدياد الأعمال ذات الورديتين، والتي أصبحت تصل إلى ثلاث ورديات أو أربع، وانتشار الفقر وخاصةً في أوساط الأسر التي تعيلها نساء”.(1)
تقول الكاتبة الأمريكية نانسي فريزر: “إن النِّسويات اللاتي كنّ يرفضن في السابق المجتمع الذي يروّج للوصولية.. أصبحن الآن ينصحن النساء بالتماهي معه. الحركة التي كانت في السابق تمنح الأفضلية للتكافل الاجتماعي.. أصبحت الآن تحتفي بسيدات الأعمال. المنظور الذي كان في السابق يمنح قيمة للرعاية والاعتماد المتبادل.. أصبح الآن يشجع الارتقاء الفردي والاستحقاقراطية”.(2)
إن النماذج التي يمكن للمرأة وللإنسان عمومًا أن يسلكها متعددة، ولا يمكن حصرها، فالعلم -مثلاً- لا يمكن التوقف عن تحصيله بانتهاء المرحلة الجامعية، ولا يصح حصره في الجامعة والشهادات العليا أساسًا، فما يزال المرء في استزادة من العلم من مختلف المصادر مهما تقدم في العمر أو زادت مسؤولياته، كل بحسب وقته وحاجته وأولوياته، وكذلك العمل إن رأى أنه بإمكانه تقديم شيء للمجتمع يفيد منه ويستفيد فإنه لا عمر يحده، إذ لا نموذج واحد للحياة يشمل الجميع، والخيارات المفتوحة المرنة الآن كالعمل على شبكة الانترنت أو التعلم عن بعد يتيح للنساء مجالاً كبيرًا بديلاً عن ساعات العمل الطويلة التي تلزمها بالتخلي عن جزء كبير من حياتها الاجتماعية، وأن تَكِل مسؤولياتها إلى الغير.
أقول أننا -كنساء- ركبتنا أحلام ليست لنا، والحياة أوسع من أن نحاكم أنفسنا لما يحاول غيرنا أن يفرضه علينا، ولكل مرجعيته وأولويته في الحياة.
_________________
** المصدر: موقع السبيل، 31/3/2019، بتصرف يسير.
(1) نانسي فريزر، كيف أصبحت النسوية خادمة للرأسمالية، وكيف نستعيدها؟، موقع حبر، 1/3/2016.
(2) المرجع السابق.


