في لحظة الخلق الأولى، حين نفخ الله من روحه في الطين، لم يكن التمايز بين الذكر والأنثى سببًا في اختلاف القيمة، بل في اختلاف الوظيفة والجمال. كلاهما نَفَسٌ من نفخة واحدة، يُكمّل أحدهما الآخر كما تتكامل الشمس والقمر، والليل والنهار، والآية والبيان.
ثم جاء القرآن الكريم لا ليمنح المرأة هوية جديدة، بل ليعيدها إلى حقيقتها الأولى، بعد أن شوهها التاريخ بجهله، والمجتمعات بأهوائها، والأنظمة بعاداتها.
فجاء الخطاب الإلهي لينتزعها من يد الوصاية إلى فضاء الكرامة، وليعرّفها بذاتها لا من خلال الرجل، بل من خلال ربها.
قال تعالى: {إِنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ}، تلك الآية وحدها كفيلة بأن تهدم كل جدارٍ صنعه الجهل بين الإيمان والجنس البشري، بين الفضل والنوع.
ففي ميزان القرآن، الهوية لا تُبنى على الجسد، بل على الروح؛ والروح لا تُذكَّر ولا تُؤنَّث؛ لأنها من أمر الله.
في النص القرآني، تتجلى الأنثى لا كجسدٍ يُشتهى، بل كفكرةٍ تُكرَّم، وكإيمانٍ يُخلَّد.
فهذه مريم التي اصطفاها الله وطهرها، وجعل من رحمها آية للناس. وهذه آسية التي وقفت أمام الطغيان، مؤمنةً بالله وحده. وهذه بلقيس، الملكة التي لم يمنعها تاجها من أن تخضع للحق حين تجلّى لها نوره.
كلهنَّ وجوه مختلفة لهوية واحدة: الأنوثة المؤمنة العاقلة الحرة. هوية لا تصرخ بالمساواة؛ لأنها تعرف أن العدل أوسع من المساواة. ولا تتبرأ من أنوثتها؛ لأنها تدرك أن الأنوثة ليست ضعفًا، بل لغةُ الرحمة التي خلقها الله لتقوم بالعبودية، وتكمل بناء الحضارة.
لقد قدّم القرآن نموذجًا أنثويًا لا يشبه صور الحضارات التي حاصرت المرأة بين تمثال وقدَمٍ، ولا يشبه الحركات الحديثة التي أخرجتها من أنوثتها لتلتحق بسباقٍ لا يشبهها. بل أعاد القرآن بناءها من الداخل، امرأة تعرف حدودها، وتدرك سموّ غايتها، وتعي أن وجودها عبادة قبل أن يكون أداء اجتماعيًا.
الهوية الأنثوية في النص القرآني ليست ردّ فعلٍ على ظلم، ولا حركة دفاعٍ عن الذات، بل هي صوت الوعي المتصل بالسماء.
حين تقرأ المرأة القرآن بعين القلب، تدرك أنها لم تُخلق لتنافس، بل لتكمّل، ولم تُكلَّف لتتباهى، بل لتشهد على العالم بجمال الحق.
إن المرأة في ضوء القرآن ليست ظلًّا لرجل، ولا تابعًا لتاريخ، بل أمانةُ خالق على وجه الأرض. هويتها من الوحي لا من الهوى، ومن الفطرة لا من الموضة، ومن النور لا من الضجيج. تسير في طريقها مطمئنة؛ لأنها تعرف من أين جاءت، وتعرف إلى من تعود.
_____________
** المصدر: قناة “وهم النسوية” بالتيلجرام، 14/10/2025.


