تشهد الساحة القانونية في بلادنا العربية والإسلامية سيلاً غير عادي من تغيير التشريعات، بل وتلاحق التعديلات على التشريع الواحد، بصورة تجعل الحليم حيران؛ فما يكاد يصدر تشريع حتى يلحقه تعديل، ثم ثانٍ وثالث وهكذا، بما يجعلنا نترحم على فترات تاريخية كان إعداد القوانين فيها يشهد درجة من الاتقان وتلبية حاجات المجتمع تجعله يبقى لعشرات السنين دونما أي حاجة إلى تعديل؛ وذلك لثبات المرجعية التي يستمد منها هذا التشريع.
والمتابع لتفصيلات الأمور لايعتريه أدنى شك في الدور الذي لعبته المؤتمرات الدولية الكبرى التي أقامتها الأمم المتحدة لهذا الشأن في القاهرة وبكين وعمان والمغرب، فلا يمكننا النظر إلى موجة تغيير قوانين الأحوال الشخصية التي اجتاحت عدد من الدول الإسلامية – مثل: المغرب، الجزائر، الأردن، اليمن، إقليم كردستان العراق، تشاد، ومشروعات القوانين التي يتم دراستها في سوريا والسودان والبحرين ومصر – بمعزل عن النشاط الواسع والضغوط الدولية التي مورست خلال السنوات الأخيرة؛ لفرض أنماط الحياة الغربية على مجتمعاتنا، خاصة فيما يتعلق بقضايا المرأة.
مراقبة لصيقة
وقد بحت الأصوات من إطلاق صيحات التحذير حول عواقب التوقيع على اتفاقيات دولية تتصادم مع ثوابتنا الشرعية وخصوصياتنا الحضارية، فكانت الإجابة الهزيلة التي لا تسمن ولا تغني من جوع بأنه لا داع للخوف من القضايا المثارة في الاتفاقيات الدولية ومصطلحاتها المشبوهة، فالاتفاقيات غالباً ما تأتي في صورة مبادئ عامة، وأن للدول الأطراف حرية وضع القواعد التشريعية المتضمنة للتفصيلات، إذ أن الدول الأطراف لها خصوصيات ثقافية أو اجتماعية لا تستطيع معها الالتزام بقواعد تفصيلية بعينها.
ولكن حدث ما كنا نخشاه، فما تم على أرض الواقع كان مغايراً لهذا الرد، فالهيئة الدولية شجعت الحكومات في بادئ الأمر على التوقيع والانضمام إلى اتفاقيات حقوقية، مثل: اتفاقية “القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة”، وتركت لها حق الاعتراض والتحفظ على ما ترفضه، وبعد أن وقعت الحكومات وصدقت برلمانات الشعوب.. بدأت الخطوة التالية للهيئة الدولية الموقرة، وهي ممارسة الضغوط كي ترفع الحكومات تحفظاتها، ولم تنس بالطبع الاستعانة بالطابور الخامس بالداخل الحليف لها، والذي يتبنى أيضاً أجندة الجهات المانحة الدولية كي ينال حصته من كعكة التمويل الخارجي،(1) الأمر الذي أفرز وضعاً يلزم الحكومات باتخاذ سلسلة من التدابير القانونية والسياسات لتطبيق الاتفاقيات وفقاً للمعايير الدولية.
إذن الأمر ليس فقط مجرد توقيع دول وتصديقها على مجموعة من النصوص، وإنما الأخطر من ذلك هو ما بعد التصديق، أي مرحلة الرقابة على تنفيذ هذه النصوص، فالاتفاقية السابق ذكرها مثلاً أوكلت بالرقابة على تنفيذ أحكامها –بموجب المادة 18 منها– إلى لجنة منبثقة من مركز المرأة بالأمم المتحدة أطلق عليها اسم “لجنة السيداو”، والتي من صلاحياتها استلام تقارير أولية ودورية من الدول الأطراف على المستوى الرسمي، وتقارير على المستوى غير الرسمي مطلقة عليها اسم (تقارير الظل)، تحوي معلومات عن البلد الطرف في الاتفاقية، والتدابير التي يتم اتخاذها على كافة المستويات، بدءاً من مستوى الدستور والقانون وأعمال المحاكم الوطنية ومستوى تصرفات السلطة العامة إلى مستوى الأفراد في تنفيذ ماورد بالاتفاقية، وحسب المعايير الدولية، وعدم الاعتداد بما قد تتذرع به الحكومات من قوانين وطنية أو عادات عرفية أو تشريعات دينية، ومن حق اللجنة الدولية التعليق على هذه التقارير، وإصدار توصيات بشأن ما تراه مناسباً.
نماذج لتأثير المتابعة
أصدرت اللجنة مثلاً في جلستها الرابعة والعشرين لعام 2001 رداً على تقرير مصر الرسمي مجموعة من الملاحظات(2) مثل: “إعادة صياغة كل ما يتعلق بالمادة 11 من الدستور المصري التي يقول نصها: تعمل الدولة على تمكين المرأة من التوفيق بين واجباتها نحو أسرتها وواجباتها في العمل، حيث أن هذه المادة بهذا الشكل تؤكد أن الدور الرئيسي للمرأة يتركز على دورها كأم وربة أسرة”. فالاتفاقية تنظر إلى الأمومة ورعاية الأسرة بأنه ترسيخ لربط الدور بالمرأة، مطلقة عليه مسمى (الدور النمطي)، وما تريده هو تقاسم الأدوار بين الرجل والمرأة داخل الأسرة وفي المجتمع، وعدم ربط الدور بالطبيعة البيولوجية؛ وذلك كي تتحقق المساواة التامة التماثلية.
وبالفعل جاءت التعديلات الدستورية في مارس سنة 2007، وتم إدخال المواطنة ضمن مواد الدستور، والذي عُدَّ مرجعية أساسية للمنظمات النسوية المصرية في مطالباتها بالمساواة التامة بالرجل في كافة القضايا من إرث وغيره، اعتماداً على مبدأ المواطنة هذا.
كما طالبت اللجنة الدولية بـــ: “حث الحكومة على مراجعة قانون الجنسية، حيث إنه لا يعطي حقوقاً قانونية لأبناء السيدة التي تتزوج من أجنبي، بينما يحصل الرجل على هذا الحق”؛ فصدر القانون رقم 154 لسنة 2004 بتعديل بعض أحكام القانون رقم 26 لسنة 1975 بشأن الجنسية المصرية، وإعطائها لجميع أبناء الأم المصرية المتزوجة من أجنبي.
كما طالبت اللجنة الدولية بـــ: “تعديل القانون المتعلق بسن الزواج ومنع ظاهرة الزواج المبكر”؛ فجاء قانون الطفل الصادر عام 2008 ووحَّد سن الزواج بالنسبة للذكر والأنثى، وجعل سن الثامنة عشرة هو الحد الأدنى لأهلية الزواج لكليهما؛ عملاً بمبدأ المساواة الوارد في الدستور، وتنفيذًا للاتفاقيات الدولية المعنية بالطفل، وغيرها من الوثائق الدولية ذات الصلة النافذة في مصر، كما ورد في ديباجة القانون والمادة الأولى والثالثة منه.
كما طالبت اللجنة الدولية بــــ: “تحتاج اللجنة في تقرير مصر القادم إلى مزيد من المعلومات عن الجهود التي يتم بذلها للقضاء على ظاهرة ختان الإناث، وكذلك معلومات عن قرار وزير الصحة الخاص بحظره”؛ لتأت تعديلات على قانون الطفل المصري الأخير حول هذا الموضوع والبقية تأتي.
ونموذج آخر كي تتضح الصورة، وهو تعليق اللجنة على تقرير الأردن عام 2000. (3)
“تدعو اللجنة الحكومة إلى إجراء تعديل دستوري لإدراج المساواة على أساس الجنس في المادة 6 من الدستور
– وتعرب اللجنة عن قلقها من أن القانون الأردني يحرم المرأه من السفر وحدها، وتعرب أيضاً عن قلقها من أن القانون الأردني يعترف بممارسه تعدد الزوجات.
– وعلى وجه الخصوص، تشعر اللجنة بالقلق؛ لأن المادة 340 من قانون العقوبات تعذر الرجل الذي يقتل أو يجرح زوجته أو الأقرباء له من الإناث واللاتي وقعن في فعل الزنا”.
وكذلك تعليق اللجنة على تقرير الجزائر عام 2005،(4) “تعرب اللجنة عن قلقها من أن التعديلات المقترح إدخالها على قانون الأسرة لا تشمل إلغاء تعدد الزوجات”.
الخلاصة
وهكذا يبدو جلياً في توصيات لجنة “سيداو” بالأمم المتحدة حول التقارير المقدمة من الحكومات حول تطبيق الاتفاقية.. مدى الضغوط التي تمارس على الحكومات لرفع تحفظاتها عن الاتفاقية، وفي هذا تجاوز خطير لصلاحيات اللجنة، وتعدّ سافر على سيادات الدول.
في النهاية نهيب بالحكومات أن تقف موقفاً يحفظه لها التاريخ، وتحمدها عليه الأجيال القادمة، بألا تستجب لإملاءات الخارج، فقد بدأ الحصاد المر من أرقام مفزعة لعواقب وتداعيات الامتثال لإملااءات منظمة دولية يفترض أنها أسست لتحقيق الأمن والسلم الدوليين، فإذا بها تصير أداة للهيمنة والسيطرة، سيطرة الغالب على المغلوب، ليس سياسياً واقتصادياً فحسب بل لتتجرأ على الجانب الاجتماعي وثقافات الشعوب؛ لترسم لهم نمط حياتهم بأدق التفاصيل، مطالبة إياهم بأن يدعوا ما درجوا عليه من عادات وقوانين وشرائع حتى وإن كانت سماوية، ويتبعوا الدين النسوي الجديد الذي يتم التبشير به الآن، فالنسوية في زعمهم هي الحل.
______________________
(1) في عام 1967 أجازت الأمم المتحدة إعلانًا خاصًّا بالقضاء على التمييز ضد المرأة، دعا إلى تغيير المفاهيم وإلغاء العادات السائدة التي تفرق بين الرجل والمرأة، مع زيادة مساحة الدور المعطى للمنظمات غير الحكومية، حيث اعترف الإعلان صراحةً بأن المنظمات النسائية غير الحكومية هى القادرة على إحداث هذا التغيير، عن طريق تحدي الأعراف والقيم الدينية والثقافية السائدة.
(2) اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، زينب رضوان ومحسن عوض، حقوق الإنسان والإعلام.. دراسات ومناقشات الدورة التدريبية للسادة معدي البرامج للإذاعة والتليفزيون، القاهرة، أكتوبر 2002، برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP، الطبعة الثانية 2003، مشروع دعم القدرات في مجال حقوق الإنسان، ص 319 حتى 330.
(3) تعليق اللجنة المعنية بالقضاء على التمييز ضد المرأة علي التقريرين الأول والثاني المقدمين من الأردن فيما يتعلق بإعمالها لإلتزاماتها تجاه اتفاقية القضاء علي جميع أشكال التمييز ضد المرأة، A/55/38.
(4) المرجع السابق.