“من الخطأ أن تتمحور حياة الأم حول أطفالها”.. تلك نصيحة وجَّهتها أم فاشينستا ومؤثّرة للأمهات، بعد أن استشهدت بحياتها الخاصة كمثال على فتاة لحقت شغفها وطموحها تسافر وتعمل وتدرس، لم يتسنَّ لها أن تحيا مع والديها بشكل كافٍ، وقد توفيت والدتها وهي بعيدة عنها بعد أن أفنت عمرها من أجل ابنتها، وبقي والدها وحيدًا في منزله في بلد آخر، لتختم حديثها قائلة: “إذًا لماذا أفني نفسي في التربية وأتخلّى عن طموحاتي إن كان أولادي سيتركونني وحيدة عندما أكبر”؟ ونحن إن تابعنا بذات التسلسل في التفكير فسيبدو لكثير من الناس سؤال (لماذا ننجب إذًا)؟ سؤالاً منطقيًّا.
أثر القيم المادية على الأمومة
هل الإنجاب أمر مفروض على الإنسان دون وجود اختيار منه؟ أو ليس الإنجاب نتيجة ذات احتمالية كبيرة لأي زواج؟ ألا يجب على الزوجين وضع احتمال الإنجاب نصب أعينهم عند ارتباطهم ولو مهما حاولوا منع حدوثه؟ أليس من البدَهيّ أن نتحمل مسؤوليّة الأطفال الذين كانوا نتاج زواج بملء الإرادة؟ وأن يكون المرء متجهّزًا لهذه المسؤولية؟، مثلما من البَدهيّ أن يعمل في مهنة اجتهد في تعلّمها، وأن يتفانى في عمله لأنه موظف مسؤول يتلقى أجرًا معيّنًا مقابل ما يفعل، على أنّ شعور الأم بمسؤوليّتها وحبّها لأطفالها وحنوِّها عليهم لا يقاس بالمقياس المادي.
وهذا من مآلات الحياة المادية والقيم الليبراليّة وتحقيق الذات التي شوّهت بهرجتها شعور الأمومة لدى الأمهات، ليحملن من سوء الظن بالله ثم بأولادهن ما جعلهن متيقِّنات بأن ما يفعلنه من تربية سيذهب سُدى، وبسبب ذلك ينتقصن من أهمية التربية والأمومة، ربما لأنها عمل لا يُقدَّر بالمال، عمل لا يجلب لهن السعادة بحسب مفاهيم العصر، عمل لا يضمن حياة رغيدة عندما يتركهن أولادهن وحيدات بعد أن يَطْعَن السِنُّ بهن، ثم يبنين على هذه الأفكار المتوهمة مفهومًا غريبًا عن علاقتهن بأطفالهن ليتخلّين عن جزءٍ مهم من واجباتهن التربوية، ولا يدركن بأن الحزن سيكون أشد على لحظات فَوَّتْنها مع أطفالهن أكثر من حزنهن على أنفسهن عندما يبقين وحيدات.
وتبدو بعض الأفكار طبيعية إن نظرنا لها من وجهة نظر الآخر، عندما يعتبر الآخر أن أسمى ما يصل إليه الإنسان في الحياة الدنيا هو المال والشهرة والمنصب الوظيفي والاجتماعي، ولا عجب أن تقديم الحياة المهنية على أي علاقة أخرى أمر يبدأ من الصغر، ومرتبط بنوع البذرة التي يزرعها الأهل في أطفالهم، عندما ينشأ الطفل على أن العمل مُقدَّم عليه، وعندما تكون العلاقة بين الولد وأهله علاقة يغلبها الطابع المالي، حيث تتمحور حاجاته بالنسبة لهم حول المال وما يرتبط به من حياة فارهة، والنتيجة تبلور صورة لدى الطفل بأن العمل واللّحاق بالطموح أكثر أهمية منه ومن أي علاقة إنسانية أخرى، ليكبر ويترك بدوره والديه للسبب ذاته، وهي حلقة مفرغة تبدأ بسلسلة تحقيق الذات، وأن المال هو جالب السعادة، وأن المنصب الوظيفي هو الذي يضمن لك مكانة اجتماعية مرموقة، وأن حاجة الطفل هي أمٌّ وأبٌ سعداء فقط، وحياة رغيدة يحصل فيها على ما تشتهي نفسه، ولن يكون له الفخر بوالديه إلا إن كانا ناجحين محققين لأحلامهما.
لقد تمكّن هذا المفهوم المادي بشكل كبير في العالم الغربي، وبدأت تظهر بوادره بشكل متسارع في عالمنا العربي، وهو مفهوم يربط السعادة والنجاح بالعمل وكثرة المال، فيعيش الإنسان في سعيٍ دائم لتحقيق السعادة الدنيوية، وينغمس فيها للدرجة التي يصعب فيها بالنسبة له أن يتخيّل حياة غيرها أو سعادة ورضى تتحقق فيها دون وفرة المال.
وبذات المفهوم عبّرت لي أم أوروبية عن استغرابها الشديد من السعادة الكبيرة التي رأتها في عائلة كبيرة تقطن بيتًا صغيرًا، قد اختارت الأم فيه تربية أبنائها على العمل واكتفوا براتب الزوج، وذلك على الرغم من القلة التي يعيشونها، لتردف قائلة: يبدو أن المال ليس السبب الوحيد للسعادة!
حب المال مقدم على العلاقات
لن نستغرب من أبناء يهجرون أهليهم لمدة أشهر وسنوات، ويزورون منزل والديهم كالغرباء، ولا يتصلون بهم لأزمان طويلة لا تقل عن أشهر، ويحضرون عزاء من تُوفي منهم لعدد من الساعات تأدية لواجب من كان يربطهم علاقة بهم يومًا ما، ثم يتركون الآخر وحيدًا بعد وفاة شريكه، ولا يكلّفون أنفسهم عناء البقاء معهم عددًا من الأيام ليخففوا عنهم وحدتهم ومصابهم، ثم يتخلى الأبناء عن واجبهم في مساعدة أهلهم بالمال وفي رعايتهم، وأفضل ما يمكن أن يقدموه لهم هو اختيار دار جيّدة للمُسنِّين ليقضوا بقيّة حياتهم فيه، فحجَّتهم دائمًا هي ضغوط العمل وتأمين المال، فمن حقهم الانشغال بمستقبلهم مثلما انشغل آباؤهم به، وهذا ليس ضربًا من الخيال بل واقع تعيشه أوروبا المعاصرة، وعلى الأهل أن يتفهَّموا هذا؛ لأنه نتيجة ما زرعوه هم في نفوس أطفالهم عن مفاهيم الحياة والعلاقات الإنسانية، فضلاً عن علاقة الأمومة والأبوّة اللتين هما أسمى أنواع العلاقات.
إن أهم ما قدموه لهم هو المال، وكل ما يشتريه من ثياب باهظة ولعب كثيرة وطعام وشراب وسياحة، وما إن أصبح الأولاد قادرين على القيام بهذا بأنفسهم تخلّوا عن هذه العلاقة المالية، وتخلّوا بدورهم عن أهلهم عندما شعروا أنهم عبء عليهم يقف عائقًا في طريق سعيهم لمستقبلهم.
صناعة ذاكرة الدفء العائلي
إن ذاكرة الطفل لا تتسع إلا لذكريات الحب ودفء العائلة، وإن ما يخفف عن الأبناء مصاعب الحياة هي ذكرى لمسات أمهم الحانية وخوفها عليهم، سيحفظون لها جميل وجودها بجانبهم عند احتياجهم، قربها منهم واحتضانها لهم وإنصاتها لشكاويهم الطفولية، صبرها على طيشهم وأخطائهم. وسيدعون الله بالرحمة لأبٍ صبر على تعليمهم الصلاة، واجتهد في إيقاظهم لصلاة الفجر، لأبٍ يأخذ بيدهم من معلم إلى معلم ومن درس إلى آخر حرصاً منه على تعليمهم، سترتسم على وجوه الأبناء ملامح البسمة عندما يستذكرون مجالس العائلة على الطعام وقراءة القرآن، واجتماعهم للصلاة وسماع القصص، وحرص والديهم الشديد على تلك المجالس العائلية على الرغم من مشاغلهم وهمومهم الكثيرة، ستمحى من ذاكرتهم تلك الساعة الباهظة والألعاب الغالية والمتنوعة والثياب الفاخرة التي ستبلى؛ لأنهم سيكبرون لامحالة وستصغر تلك الأشياء في أعينهم، ثم سيجدون ذاكرتهم خاوية يبحثون في طيّاتها عن دفء العائلة واحتوائها وملامح الأب والأم المحبين.
إن ما يحتاجه الأبناء هو الحب والعطف والرفق، يحتاجون أمًّا متنبّهة لأحوالهم ومتابعة لتطوراتهم وحاجاتهم، وأبًا ذا وجود فعال في حياتهم وإن كان غائبًا، لا مستغرقًا في أعماله صباحًا ولا لاهيًا بالترويح عن نفسه مع صحبه مساءً، التربية هي صنع الإنسان المؤمن الصالح السويّ الصامد أمام متقلبات الحياة ومصاعبها، وليست مجرد ملءٍ لذلك الإنسان بالطعام والشراب، ثم إرساله للمدرسة لإتمام عملية الحشو التعليمي.
التربية الحقيقية الصالحة هي ما نحن بأشد الحاجة إليه في أمة الإسلام مع كثرة ما تتعرض له من فتن، وهذا ما تنبهت له نساء أوروبيات حديثات عهد بالإسلام، وقد شعرت منهن حرصهن الشديد على التربية الإسلامية بعد مقابلتي لعدد منهن، وعلى الرغم من نشوئهن في مجتمع متفلِّت وتشرّبهن للثقافة المادية والليبرالية، إلّا أن الإسلام خاطب فطرتهن، فطرة الأم التي تحب التواجد بجانب أبنائها، فطرة حب الأسرة والمحافظة عليها.
كما اقتنعن بالحق الذي ضمنه الإسلام للأطفال في تربية إسلاميّة تجعل منهم أفرادًا صالحين، لقد رضين بالعيش القليل مقابل البقاء في المنزل لتربية أبنائهن، لم يريدن لهم أن يتربّوا في المحاضن التربوية الغربيّة لعلمهن بما يزرعونه في الأطفال من مبادئ فاسدة، لم يريدن لأطفالهن إلا أن يستشعروا معنى العائلة التي فقدنها في صغرهن، فقد كانت ذكريات طفولتهن عبارة عن أيام قضينها بين أب وأم منشغلين بالعمل، وبين برودة وظلمة منزلهن كلما عودن إليه، لم تكن اجتماعاتهن العائلية سوى مشاجرات أو اجتماعات صامتة لا يسأل فيها أحد الآخر عن حاله، وما إن يصلن إلى سن المراهقة حتى يغادرن منازل عائلاتهن ليكملن حياتهن وحيدات، إلا القليل من الأسر اللاتي ما زالت متمسكة ببقايا المسيحية المحافظة.
عائد تربية الأبناء على الآباء
قال تعالى في كتابه الكريم: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً}[الإسراء:31]، لقد حُرِّم الإجهاض لأي سبب، سواء كان لفقر حاصل أو خشية من الفقر؛ لأن الله هو الرّازق مدبر الأمر، وإن تتبعنا هدي النبي صلى الله عليه وسلم فلا نجد للمال ولا للمنصب الاجتماعي والوظيفي أهمية تذكر في صنع الرجال والنساء المسلمين والمسلمات، ولا وزن له في التربية ولا في الإصلاح، وليس نقصه سببًا موجبًا لتأخير الإنجاب، ولا مؤدّيًا لفشل التربية أو لتنبؤ فشلها، اللهم إلا إن كان فقرًا مدقعًا يمنع من لا يستطيع سد حاجة المرأة من المطعم والمأكل والمسكن من الزواج ابتداءً(1)، فالتربية مسؤولية الوالدين؛ لأنها ضمن قدراتهم وضمن ما يمكنهم تعلمه والسعي لتحسينه، أما المال فالأصل فيه أن ينفق الأب على أبنائه ما يسد حاجتهم، ولا يُشترط الإغداق عليهم بالأموال ولا أن يكون هو الهمّ الأكبر الذي نسعى لأجله، فالرزق من الله مهما سعى الإنسان لتحصيله.
والتربية الصالحة تحتاج لجهد كبير من الأبوين وللاستعانة بالله أولاً، والتوكّل عليه والسعي الدؤوب ثانيًا؛ لإصلاح الحال الدنيوي والأخروي، والتعلم الذي يفيد في تربية الأبناء وإنباتهم نباتًا حسنًا، فلابد أن تكون التربية هي المهمة الأسمى التي تدور حولها المسؤوليات والواجبات، وأما ما سيحدث في المستقبل فهو من علم الله الذي لا يمكن للإنسان أن يحيط به، ولا يملك الإنسان لنفسه ولا لأولاده ضرًّا ولا نفعًا، فالله من يتولى عباده برحمته كبارًا وصغارًا، والمرء يجتهد في أعماله والمسؤوليات الموكلة إليه ويتقن عمله ويحسن فيه، ولا ينتظر النتائج فلربما تأتي النتائج بعكس ما اجتهد له، وقد لا يُحصّل أجره في الدنيا من برِّ الأبناء ثم يحصله في الآخرة بمشيئة الله، ويكفيه يوم الحساب أنّه أدى ما عليه واجتهد في التربية وفي إصلاح حاله وحال ذريته.
وإن زاده الله فضلاً كان أولاده من الصالحين المصلحين، وكانوا كالصدقة الجارية للوالدين لا تنقطع بموتهم، قال المناوي رحمه الله تعالى: “لأن يؤدب الرجل ولده عندما يبلغ من السن والعقل مبلغًا يحتمل ذلك، بأن ينشئه على أخلاق صلحاء المؤمنين، ويصونه عن مخالطة المفسدين، ويعلمه القرآن والأدب ولسان العرب، ويسمعه السنن وأقاويل السلف، ويعلمه من أحكام الدين ما لا غنى عنه، ويهدده ثم يضربه على نحو الصلاة وغير ذلك، خير له من أن يتصدق بصاع؛ لأنه إذا أدبه صارت أفعاله من صدقاته الجارية، وصدقة الصاع ينقطع ثوابها، وهذا يدوم بدوام الولد، والأدب غذاء النفوس وتربيتها للآخرة: {قوا أنفسكم وأهليكم ناراً} [التحريم:6]”. (2)
__________
** المصدر: موقع السبيل، 23/7/2022، بتصرف.
(1) انظر الفتوى من موقع إسلام ويب. وانظر أيضًا: المفصل في أحكام المرأة والبيت المسلم في الشريعة الإسلامية، عبد الكريم زيدان، المجلد السادس، الفصل الأول: تعريف الزواج وبيان حكمه وحكمته.
(2) فيض القدير شرح الجامع الصغير، المناوي، م5، ص326، 7210- عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “لَأَنْ يُؤَدِّبَ الرَّجُلُ وَلَدَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِصَاعٍ” [أحمد في المسند، 20495، وهو حديث ضعيف[.