“إن الأسرة بمعناها الإنساني المتحضر لم يعد لها وجود إلا في المجتمعات الإسلامية، رغم التخلف الذي تشهده هذه المجتمعات في شتى المجالات الأخرى”.
وردت هذه العبارة في التقرير الصادر عن هيئة الأمم المتحدة عام 1975م بمناسبة العام العالمي للمرأة، بما يعني أن الأسرة هي الحصن الأخير الذي صار لزامًا على الأمة الإسلامية الحفاظ عليه إذا أرادت أن تحمي نفسها من الفناء، بل والانطلاق منه للنهوض من كبوتها.
ولم يخف ممثل صندوق الإسكان في الأمم المتحدة في هولندا سعادته الشديدة بانهيار الأسرة على المستوى العالمي، حيث قال في ندوة عُقدت في المكسيك: “إن ارتفاع معدلات الطلاق، وكذا ارتفاع معدلات المواليد خارج نطاق الأسرة يُعدُّ نصرًا كبيرًا لحقوق الإنسان على البطريركية”!
وفي تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي لعام 1995م – أحد الوثائق الرسمية للجمعية العامة في الدورة الخمسين – لم يرد ذكر الأسرة على مدار التقرير الذي بلغ تعداده 227 صفحة عبر أربعة عشر فصلاً، وذلك رغم تناوله لمسائل ذات صلة، كحقوق الإنسان والنهوض بالمرأة ودور المرأة في التنمية… إلخ.
وتقوم المنظمات الدولية بسن قوانين وعمل لجان للمرأة والطفل في الأمم المتحدة، حيث تتم صياغة مفردات ذلك النمط الحضاري الأوحد في صورة وثائق دولية، وتستند تلك الاتفاقيات في مطالبتها بتغيير قوانين الأسرة والمرأة والطفل إلى دعوى إنصاف المرأة وإعطائها كامل حقوقها، وذلك من خلال اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة المسماة بــــ(السيداو)، والتي تعمل على إلغاء كافة الفوارق بين الجنسين، والمطالبة بضرورة نقد وتحدي وتغيير ما أسمته بـــــ(القوالب الجندرية النمطية Gender stereotypes)، إشارة إلى اختصاص الرجل بالإنفاق وريادة الأسرة، واختصاص المرأة بالأمومة ورعاية الزوج وشئون البيت، التي تراها من الأسباب الرئيسية للعنف. وأيضًا وثيقة (بكين) التي تعد وثيقة سياسات وآليات لتطبيق بنود السيداو.
مصطلح “مطاط”
تصاعدت في الآونة الأخيرة مطالبات أممية ترفع شعار (لا للعنف ضد المرأة)، الأمر الذي يستوجب ضرورة تحديد مفهوم ذلك المصطلح المطاط؛ لاحتوائه على مفردات عدة تؤدي في مجملها إلى تدخل سافر في شئون الأسرة؛ بحجة حماية إناثها وأطفالها من الإساءة، بل وإدراج أي نوع من القوامة أو التربية التي يمارسها الآباء نحو الأبناء ضمن قائمة ما أطلقوا عليه (العنف الأسري)، ومطاطية المصطلحات دائمًا ما تكون هي الفخ الذي يُنصب للحكومات، والذي تقع فيه معظم الحكومات.
وما مصطلح (العنف الأسري) إلا وعاء كبير، عالي الجدران، يزداد اتساعًا عامًا بعد عام، إذ تضاف إليه في كل عام تعريفات جديدة وتطبيقات مستحدثة، فتارة يعد قانون الإرث في الإسلام عنفًا ضد المرأة، وتارة يمثل تعدد الزوجات العنف بعينه.
كما يعد اختصاص المرأة بالأمومة ورعاية الأسرة قمة العنف ضدها، ثم ولاية الأب على البكر والتي تعدها الاتفاقيات عنفًا وتمييزًا ضد الفتاة، ناهيك عن قيام الرجل بالإنفاق على الأسرة وحمايتها ورعايتها، ومن ثم تصير له القوامة عليها، ثم ما تستتبعه تلك القوامة من طاعة الزوجة لزوجها، وحق الزوج في معاشرة زوجته، والذي تعده تلك الوثائق (اغتصابًا زوجيًا) أو (استغلالاً جنسيًّا)، ومن ثم تطالب تلك الوثائق بسن القوانين والتشريعات لمعاقبة الرجل على كل هذا الكم الهائل من العنف!
(العنف) في الوثائق الدولية
ومن الأمور التي تعتبرها الوثائق الدولية (عنف ضد المرأة) يجب القضاء عليه ما يلي:
1- الزواج تحت سن الثامنة عشر:
تحارب الأمم المتحدة بكل قوة القوانين التي تعطي الفتاة الحق في الزواج وهي دون الثامنة عشر، وتعده عنفًا ضد )الطفلة الأنثى(، حيث تنص اتفاقية )السيداو( على: “لا يكون لخطوبة الطفل أو زواجه أي أثر قانوني، وتتخذ جميع الإجراءات الضرورية بما فيها التشريع لتحديد سن أدنى للزواج”، ثم جاءت وثيقة )عالم جدير بالأطفال 2002( لتصنفه ضمن )الممارسات الضارة والتعسفية(، حيث نصت على: “القضاء على الممارسات الضارة أو التعسفية التي تنتهك حقوق الأطفال والنساء مثل: الزواج المبكر، والقسري، وتشويه الأعضاء التناسلية للإناث (الختان)”.
2- الضوابط المفروضة على الحرية في الجسد:
فأي قيود أو ضوابط تعمل على تقنين شهوات الجسد ووضعها في مسارها الصحيح تعد قيودًا غير مقبولة، وعنفًا يجب رفعه في الحال، ومنها:
أ- استنكار الحرص على العفة والعذرية، حيث يصف تقرير لجنة الخبراء الصادر عام 2007م “تمسك بعض المجتمعات بعذرية الفتاة انطلاقًا من شرائعها وقيمها الحاكمة بالكبت الجنسي “Repression of female sexual، ويعده شكلاً من أشكال التمييز ضد الطفلة الأنثى.
ب- إلزام الحكومات بتوفير خدمات الصحة الإنجابية لكل الأفراد، حيث نصت اتفاقية )سيداو( على: “نفس الحقوق والمسئوليات كوالدة بغض النظر عن حالتها الزوجية في الأمور المتعلقة بأطفالها”، أي أن المرأة إذا أنجبت سواء كانت زوجة وأمًا شرعية أو أنجبت من سفاح، يجب أن تحصل على نفس الحقوق هي وطفلها، من إنفاق ونسب وإرث تمامًا كما للزوجة الشرعية لا فارق بينهما.
ج- أن يصبح اختيار الهوية الجندرية واختيار التوجه الجنسي من حقوق الإنسان، حيث ينص تقرير لجنة الخبراء على: “مراعاة حق الشاذات في التعبير عن آرائهن حول الشذوذ وحقهن في الحصول على شركاء مثليي الجنس، ويؤكد التقرير على أن الاعتراض على كل تلك الحقوق يعد عنفًا ضد الطفلة الأنثى، وأن رفض المجتمع للفتيات السحاقيات يعد نوعًا من العنف ضدهن”.
د- مطالبة الحكومات بإدماج المراهقات الحوامل في التعليم النظامي.
3- مهر العروس:
وقد اعتبر تقرير لجنة الخبراء 2007 تحت عنوان )القضاء على كافة أشكال التمييز ضد الطفلة الأنثى( في الفقرة (49) المهر شكلاً من أشكال العنف ضد الفتاة، وأسماه )ثمن العروس Bride price (، واعتبر أنه يحول الفتاة إلى سلعة تُباع وتشترى، ومن هنا تأتي المطالبة النسوية بإلغاء المهر.
4- عمل الفتاة في بيت أهلها:
تعتبر الوثائق أن عمل الفتاة دون الثامنة عشرة في منزل أهلها أحد أسوأ أشكال عمالة الأطفال، وطالبت منظمة العمل الدولية بإدراجه ضمن أسوأ أشكال عمالة الأطفال، وبالتالي تجريمه دوليًا واعتباره عنفًا ضد الطفلة!
5- عدم التساوي بين الرجل والمرأة في الميراث:
كما اعتبر تقرير لجنة الخبراء 2007م، الصادر عن قسم الارتقاء بالمرأة بالأمم المتحدة أن القوانين في البلدان غير الغربية تؤدي إلى الحد من قدرة المرأة على التطوير الاقتصادي، وضرب مثالاً لذلك بقوانين الميراث في الدول الإسلامية، حيث اعتبرها تمييزًا ضد الفتاة، وطالب بالمساواة التامة فيها بين النساء والرجال.
6- الولاية على الأبناء بوجه عام:
فقد اعتبر التقرير الإقليمي للمنطقة العربية الصادر عن الأمين العام للأمم المتحدة والمعنون بــــ(العنف في المواقع المختلفة) أن “تهذيب الوالدين للأبناء أو توبيخهم أو اتباع أي سياسة عقابية عنفًا ضد الأطفال داخل الأسرة يجب توقيفه على الفور”.
7- الولاية على الابنة البكر في الزواج:
تنص اتفاقية (السيداو) على:”تتخذ الدول الأطراف جميع التدابير المناسبة للقضاء على التمييز ضد المرأة في كافة الأمور المتعلقة بالزواج والعلاقات الأسرية على أساس تساوي الرجل والمرأة في نفس الحق في عقد الزواج”، وهو ما يعني إلغاء عدد كبير من الفوارق بين الذكر والأنثى عند الزواج، من أهمها الولاية على الابنة في الزواج لتتساوى مع الذكر الذي لم تُشترط الولاية عليه في الزواج.
8- الأدوار الفطرية لكل من الرجل والمرأة داخل الأسرة:
تعتبر الأمم المتحدة هذا التقسيم الفطري للأدوار بين الرجل والمرأة تكريسًا للعنف ضد المرأة، وتطلق عليه مسمى العنف المبني على النوع، وكما اعتادت الأمم المتحدة اللعب بالمصطلحات فإنها تستبدل مصطلح الأدوار الفطرية بمصطلح الأدوار النمطية/التقليدية أو القوالب النمطية الجندرية، فتنص وثيقة بكين على: “التسليم بأن القضاء على القوالب النمطية يدعو إلى تغير مجتمعي عميق ويجب دعمه باستحداث استراتيجيات من شأنها إزالة القوالب النمطية الجندرية في جميع مجالات الحياة، والتشجيع على طرح صورة إيجابية عن المرأة والفتاة على جميع المستويات، بما في ذلك صفاتهن كقائدات وصانعات للقرار، ومن خلال وسائل تشمل وضع وتنفيذ التشريعات والسياسات والبرامج المناسبة، وشن حملات التوعية للتصدي للمواقف والسلوكيات المبنية على القوالب النمطية، التي تسهم في تعرض البنات للتمييز والعنف”.
9- قوامة الرجل في الأسرة:
عناصر القوامة التي تعدها الوثائق الدولية عنفًا ضد المرأة:
أ- الإنفاق على الأسرة، تعتبر الوثائق “الاعتماد الاقتصادي للمرأة على الرجل” السبب الرئيسي في العنف ضد المرأة، وبالتالي طالبت بضرورة أن تتخفف المرأة من أعبائها المنزلية، حتى تتاح لها فرصة الخروج والعمل خارج المنزل كي تتقاضى بعض المال، وتستقل اقتصاديًا عن الرجل.
ب- مفهوم أن الأسرة هي محور خاص تحت تحكم وسيطرة الرجل.
ج- الاعتماد الاقتصادي للمرأة على الرجل.
د- استئذان الزوجة زوجها للخروج والسفر والعمل، والذي اعتبره التقرير الصادر عن صندوق الأمم المتحدة للسكان شكلاً من أشكال العنف.
ه- الحق الشرعي للزوج، تم توسيع تعريف الاغتصاب في العديد من الدول خاصة في إفريقيا، بحيث تصبح العلاقة الجنسية مع الزوجة بدون كامل رضاها اغتصابًا زوجيًا، وذلك بالتركيز على عنصر (الرضا) بعد أن كان التركيز على عنصر (الإجبار الجسدي).
و- التشارك بين الزوجين في قرار الإنجاب، من أهم مبادئ النسويات الراديكاليات أن جسد المرأة ملكٌ لها، ومن ثم إذا أرادت الزوجة تعقيم نفسها فلا داعي لإذن الزوج، وقد انتقد تقرير الحريات المملكة العربية السعودية لإعطائها الزوج هذا الحق.
ز- الطلاق بإرادة الزوج المنفردة، تعتبر الاتفاقيات الدولية الصورة التي يتم بها الطلاق في الشريعة الإسلامية عنفًا ضد المرأة، حيث تنص اتفاقية (السيداو) على “تتخذ الدول الأطراف جميع التدابير المناسبة للقضاء على التمييز ضد المرأة في كافة الأمور المتعلقة بالزواج والعلاقات الأسرية، وبوجه خاص تضمن على أساس تساوي الرجل والمرأة… نفس الحقوق والمسئوليات أثناء الزواج وعند فسخه”.
ح- التعدد، يعتبر التعدد من منظور الوثائق الدولية من أبعد أشكال التمييز والعنف ضد المرأة، حيث علقت لجنة (السيداو) على تقارير بعض الدول الإسلامية بشأن التعدد بما يلي: “تعدد الزوجات يتعارض مع حقوق المرأة في المساواة بالرجل، ويمكن أن تكون له نتائج انفعالية ومادية خطيرة على المرأة وعلى من تعول”.
نتائج الضغوط الأممية
تمارس الأمم المتحدة ضغوطًا شديدة لإدماج مصطلح العنف الأسري على كل المستويات، وقد أفلحت هذه الضغوط في تغيير بعض التشريعات والقوانين المتعلقة بالأسرة، منها:
الأردن: فقد رفع سن الزواج إلى الثامنة عشر وصار سن الخامسة عشر هو الاستثناء، وقُيد التعدد باشتراط موافقة القاضي، وإعلام المخطوبة بزواجه الحالي، وإبلاغ الزوجة الأولى.
وفي لبنان: أثمرت الضغوط عن تعديلات، منها: حصول الزوج على حقه الشرعي يجب أن يكون بكامل رضا الزوجة، وإذا امتنعت وهددها بأي شكل من الأشكال “قد يهددها بالزواج من أخرى أو يهددها بالطلاق مثلاً” فسيناله العقاب كما تنص المادة 3/أ/3 : “من أكره زوجته بالعنف والتهديد على الجماع عوقب بالحبس من ستة أشهر إلى سنتين”، ويحرم القانون الزوج والأب من حقه في القوامة داخل الأسرة؛ لأنه إذا لم يسمح لزوجته أو ابنته بالخروج إلا بإذنه فإنه يكون بذلك قد حجز حريتها، ومارس عليها عنفًا معنويًا فيعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى سنة وفقًا للمادة 3/أ/9 من مشروع القانون .
وفي المغرب: التخلي عن مفهوم طاعة الزوجة لزوجها، وإلغاء رب الأسرة، والتخلي عن إشراف المرأة على البيت وتنظيم شئونه، وإحلال المساواة بين الزوجين في تحمل مسئولية الأسرة، بمعنى إلزام المرأة كذلك بالإنفاق على الأسرة مناصفة مع الرجل، ورفع سن الزواج حتى الثامنة عشره، وإلغاء الوصاية (الولاية) على المرأة البكر الراشدة.
الخلاصـــة
يتبين مما سبق أن العنف ضد المرأة بشكل عام والعنف الأسري بشكل خاص، ما هو إلا وعاء كبير غير محدود ولا معلوم الأبعاد، يزداد امتلاءً يومًا بعد يوم، وتتولى ملأه هيئات دولية تصدر الوثائق وتضفي عليها صفة الإلزام، ثم تضغط على حكومات العالم للانضمام إليها ثم الالتزام بما فيها التزامًا حرفيًا، مهما اصطدمت بثوابتها الدينية أو الثقافية أو التشريعية، وعدم التذرع بأي عرف أو تقليد أو اعتبار ديني تجنبًا للوفاء بالتزاماتها التي فرضتها عليها تلك الوثائق والاتفاقيات، وذلك في تحدٍ واضح للأديان والأعراف، والمطالبة الصريحة باستبدال كل تلك المرجعيات بالمرجعية الدولية.
لقد عافت المرأة الغربية حياتها، وباتت تحسد المسلمة لما تتمتع به من راحة بال وعزة وكرامة داخل مملكة الأسرة.. إذ فطنت المحامية الفرنسية كريستين إلى هذه الحقيقة حين زارت الشرق المسلم فكتبت تقول: “المرأة في غرب أوربا سلعة، فالرجل يقول لها: انهضي لكسب خبزك فأنت قد طلبت المساواة، ومع الكد والتعب لكسب الخبز تنسى المرأة أنوثتها وينسى الرجل شريكته وتبقى الحياة بلا معنى”.
____________________
** المقال مختصر لبحث الدكتورة كاميليا حلمي المعنون بــ”مصطلح العنف الأسري”.


